تأسيس التفكير العلمي بآيات النظر والاستدلال
الحمدُ لله الذي انْعم علينا بالإسلام، وَ رزقـنَـا هذه الهداية بعد الجهْل والضَـلال، وصلّى الله على سيّدنا محمّد الهادي البشير، وَ السّراج المنـير،
وعلى آله وصحْبه، ومَنْ تَبعه إلى يوْمِ الدين ..
وبـعْـد ..
السلامُ عليكم و رحمةُ اللهِ و برَكاته
أخوتي و أخَواتي في الله
أتمنى مِنْ الله عز و جل أن تكونوا جميعاً بأفضل حال
تأسيس التفكير العلمي بآيات النظر والاستدلال
الكـاتب : ناوي عبد الهادي
جعل الإسلام اليقين الصحيح ثمرة النظر العميق في كتاب الكون المفتوح وقراءة آياته المبثوثة في الآفاق، والقرآن الكريم دعوة ملحة إلى معرفة الله عن طريق التدبر في ملكوته، والتفكر في صنوف خلقه، بل إنه ليعتبر الكفار دواب؛ لأنهم عطلوا حواسهم، وأهملوا مشاعرهم وأهدروا نعمة العقل التي أكرمهم الله بها، وزاد القرآن في تقدير الحرية العقلية عنصرا لم يكن موجودا في الديانات السالفة، هو ما أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: ((ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلّي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة)).
يعني أن معجزات الأنبياء السابقين كانت خوارق للعادات، يسلمها العقل عن قهر؛ لأنه لا مدخل له فيها، أما معجزة الإسلام فأساسها كتاب يخاطب العقل خطابا مباشرا، فما بقي على الأرض عقل بقي أمل في الإيمان بهذا الدين، ولهذا رجا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون أكثر الأنبياء أتباعا.
وما من باحث منصف يدرس القرآن الكريم إلا ويكتشف فيه حقيقة كونية هائلة منهجا ومعرفة، أما المنهج فيتجلى في وضع القرآن الكريم المبادئ الأساسية للوصول إلى حقائق الوجود، كالسببية والغائية وعدم الاستسلام للظنون والأوهام والانتقال من المحسوس إلى المجرد، واتباع طرق الاستقراء والاستدلال والنظر، من خلال استعمال الحواس والتحليل العقلي والتلقي بالقلب: من عمل بما علم، علمه الله علم ما لم يعلم، وسائر الطاقات البشرية المادية.
وبالنسبة للمعرفة العلمية الكونية، فقد وردت إشارات متنوعة عنها في كثير من الآيات القرآنية، تكشف أسرار الوجود وما أودع الله فيها من القوانين المادية من خلال الحديث المفصل عن مظاهر القدرة الإلهية، وإذا أضفنا إلى ذلك موقف الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - من العلم والتعلم، والفهم السديد لصحابته وتابعيهم لإدراك المقاصد القرآنية في فهم الدعوة إلى فهم أسرار الوجود، أدركنا حقيقة التغيير الحضاري الذي نتج في العالم الإسلامي من منطلق مواجهة المسلمين للحضارات العالمية يومئذ مواجهة نشيطة مفتوحة بعقلية علمية دقيقة (منهج التغيير الاجتماعي في الإسلام د. محسن عبد الحميد ص 49، وهناك كتب أخرى تسير في نفس الاتجاه ككتاب (حول إعادة تشكيل العقل المسلم) للدكتور عماد الدين خليل، وكتاب (الإسلام في عصر العلم) للدكتور محمد أحمد الغمراوي).
ولهذا فهدف العلم عندنا لا يقف عند حدود استثمار البيئة وخلق المواطن وإنما يتعدى ذلك إلى خلق الإنسان الكامل، كما يتعدى معرفة البيئة إلى معرفة خالقها.
ويلخص سيد قطب مميزات المنهج القرآني في:
ا - عرض الحقيقة كما هي في عالم الواقع بالأسلوب الذي يكشف كل زواياها وكل جوانبها وارتباطاتها ومقتضياتها. وهو مع هذا الشمول لا يعقد هذه الحقيقة.
2 - عدم الانقطاع والتمزق الملحوظين في الدراسات العلمية والتأملات الفلسفية.
3 - المحافظة على إعطاء كل جانب من جوانب الحقيقة مساحته التي تساوي وزنه الحقيقي في ميزان الله. (مقومات التصور الإسلامي لـ "سيد قطب" ص (66).
وهكذا نجد نداءات القرآن الكريم الملحة الموجهة إلى عقل المسلم تدعوه إلى القراءة والتفكير والتعقل والتفقه والتبصر والتدبر.. يجمعها قوله - تعالى -: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدّبّرُوَاْ آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكّرَ أُوْلُو الألْبَابِ) (ص: 29).
فهل يعي المسلمون اليوم هذه الحقيقة؟، ويكسروا الحواجز التي حجبت هداية القرآن عن نفوسهم وعقولهم، ويدركوا الأسباب التي أدت إلى هزيمتهم أمام الحضارة الغربية؛ ليراجعوا مواقفهم الخاطئة ويعودوا للمنهج القويم؟
عرض لبعض آيات النظر والاستدلال:
انطلاقا من نظرتنا الشمولية للقرآن، فإننا لن نحصر آيات النظر والاستدلال في بضع آيات، بل سنعتمد على القرآن ككل، وذلك لاختلاف الأساليب التي خاطب بها القرآن المسلمين على اختلاف درجاتهم المعرفية ومستوياتهم الإدراكية.
وهكذا فإننا نصادف في القرآن الكريم: الأسلوب البرهاني، والحجة، والجدال الحسن، والاستقراء، والمقارنة، والتمحيص استنادًا إلى المعطيات الحسية الخارجية وضرب الأمثال إلى غير ذلك من الأساليب.
وحسب ما ورد في (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم) فإن مادة ن. ظ. ر قد وردت في القرآن 130 مرة بتسع وعشرين صيغة.
وهذه بعض النماذج منها:
1 – (قُلْ سِيرُواْ فِي الأرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ)(العنكبوت: 20).
وهذه الآية - حسب ما ورد في حاشية الصاوي على الجلالين - خطاب لمنكري البعث ليشاهدوا كيف أنشأ الله جميع الكائنات، ومن قدر على إنشائها بدءا يقدر على إعادتها.
2 – (فَانظُرْ إِلَىَ آثَارِ رَحْمَةِ اللّهِ كَيْفَ يُحْيِيِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنّ ذَلِكَ لَمُحْييِ الْمَوْتَىَ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الروم: 50).
3 – (فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَىَ طَعَامِهِ) (عبس: 24)
في هذه الآية بيان لتعداد النعم المتعلقة بحياة الإنسان في الدنيا، إثر بيان النعم المتعلقة بإيجاده.
4 – (فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ) (الطارق5).
5 – (أَفَلَمْ يَنظُرُوَاْ إِلَى السّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيّنّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ) (ق: 6).
6 - والملاحظ أن مادة هذا الفعل تأتي غالبا بعد استفهام يفيد الإنكار والتوبيخ.
والتقدير أَعَمُوا فلا ينظرون كما في قوله: (أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (الغاشية: 17)، أو أغفلوا وعموا فلم ينظروا إلى آيات الله الباهرة. وفي هذا تقريع لكل ذي نظر لا يعمله في التفكير والتأمل والاتعاظ.
أما مادة (د. ل. ل) فوردت ثمان مرات كما في قوله - تعالى - في سورة الفرقان: (أَلَمْ تَرَ إِلَىَ رَبّكَ كَيْفَ مَدّ الظّلّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمّ جَعَلْنَا الشّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) (آية: 45).